فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 7):

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}
قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى، ومن للتبعيض، أي: بعض مكان سكناكم، وقيل: زائدة {مّن وُجْدِكُمْ} أي: من سعتكم وطاقتكم، والوجد القدرة. قال الفرّاء: يقول على ما يجد، فإن كان موسعاً عليه، وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيراً فعلى قدر ذلك. قال قتادة: إن لم تجد إلاّ ناحية بيتك فأسكنها فيه.
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثاً، هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك، والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة.
وذهب أحمد، وإسحاق، وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق، وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} نهى سبحانه عن مضارتهنّ بالتضييق عليهنّ في المسكن والنفقة.
وقال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النفقة.
وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدّتها راجعها، ثم طلقها {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي: إلى غاية هي وضعهنّ للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة؛ فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال عليّ، وابن عمر، وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أولادكم بعد ذلك {فآتوهن اجورهنّ} أي: أجور إرضاعهنّ والمعنى: أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهنّ منهنّ، فلهنّ أجورهنّ على ذلك {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات، أي: تشاورا بينكم بما هو معروف غير منكر، وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل، وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضاً بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم. قال مقاتل: المعنى: ليتراض الأب والأم على أجر مسمى، قيل: والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر، والمعروف الجميل منها: أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي: في أجر الرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأمّ الأجر، وأبت الأمّ أن ترضعه إلاّ بما تريد من الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي: يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر. قال الضحاك: إن أبت الأمّ أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ} فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: كان رزقه بمقدار القوت، أو مضيق ليس بموسع {فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله} أي: مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} أي: ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي: بعد ضيق وشدّة سعة وغنى.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مّن وُجْدِكُمْ} قال: من سعتكم {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} قال في المسكن.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ} الآية، قال: فهذه في المرأة يطلقها زوجها، وهي حامل، فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، فإن أبان طلاقها وليس بها حمل، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة لها.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول، فأخبره، فقال: رحمه الله تأوّل هذه الآية {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله}.

.تفسير الآيات (8- 12):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
لما ذكر سبحانه ما تقدّم من الأحكام، حذّر من مخالفتها، وذكر عتوّ قوم خالفوا أوامره، فحلّ بهم عذابه، فقال: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} يعني: عصت، والمراد: أهلها، والمعنى: وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين {عتت} معنى أعرضت، وقد قدّمنا الكلام في {كأين} في سورة آل عمران وغيرها {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} أي: شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا. قال مقاتل: حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب، وهو معنى قوله: {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي: عذبنا أهلها عذاباً عظيماً منكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: عذبنا أهلها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط، والسيف والخسف والمسخ، وحاسبناهم في الآخرة حساباً شديداً. والنكر: المنكر {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي: عاقبة كفرها {وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} أي: هلاكاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة. {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} في الآخرة، وهو عذاب النار، والتكرير للتأكيد {فاتقوا الله ياأولى الألباب} أي: يا أولي العقول الراجحة، وقوله: {الذين آمنوا} في محل نصب بتقدير أعني بياناً للمنادى بقوله: {يأُوْلِي الألباب} أو عطف بيان له أو نعت {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي: أنزل إليكم قرآناً، وأرسل إليكم رسولاً، وقال أبو عليّ الفارسي: إن رسولاً منصوب بالمصدر، وهو ذكراً؛ لأن المصدر المنوّن يعمل. والمعنى: أنزل إليكم ذكر الرسول. وقيل: إن {رسولاً} بدل من {ذكراً}؛ وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة، وقيل: إنه بدل منه على حذف مضاف من الأوّل تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً، أو صاحب ذكر رسولاً. وقيل: إن رسولاً نعت على حذف مضاف أي: ذكراً ذا رسول، فذا رسول نعت للذكر. وقيل: إن رسولاً بمعنى رسالة، فيكون رسولاً بدلاً صريحاً من غير تأويل، أو بياناً. وقيل: إن {رسولاً} منتصب على الإغراء، كأنه قال: الزموا رسولاً، وقيل: إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف كقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. ثم بيّن هذا الشرف فقال: {رَسُولاً} وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: هو جبريل، والمراد بالذكر القرآن، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة، كما لا يخفى. ثم نعت سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور بقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات} أي: حال كونها مبينات، قرأ الجمهور: {مبينات} على صيغة اسم المفعول، أي: بيّنها الله وأوضحها، وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي على صيغة اسم الفاعل أي: الآيات تبيّن للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام.
ورجّح القراءة الأولى أبو حاتم، وأبو عبيد لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} [آل عمران: 118] {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} اللام متعلقة ب {يتلو} أي: ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل، فيكون المخرج هو الله سبحانه: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي: يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه {ندخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} قرأ الجمهور: {يدخله} بالتحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون، وجمع الضمير في {خالدين فِيهَا أَبَداً} باعتبار معنى من، ووحّده في {يدخله} باعتبار لفظها، وجملة: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} في محل نصب على الحال من الضمير في خالدين على التداخل، أو من مفعول يدخله على الترادف؛ ومعنى {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} أي: وسع له رزقه في الجنة. {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات} الاسم الشريف مبتدأ، وخبره الموصول مع صلته {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي: وخلق من الأرض مثلهنّ يعني: سبعاً.
واختلف في كيفية طبقات الأرض. قال القرطبي في تفسيره: واختلف فيهنّ على قولين: أحدهما، وهو قول الجمهور: أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأوّل أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي، والنسائي، وغيرهما، وقد مضى ذلك مبيناً في البقرة قال: وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» إلى آخر كلامه، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول الجمهور. قرأ الجمهور: {مثلهنّ} بالنصب عطفاً على {سَبْعَ سموات} أو على تقدير فعل، أي: وخلق من الأرض مثلهنّ. وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء، والجار والمجرور قبله خبره {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} الجملة مستأنفة، ويجوز أن تكون صفة لما قبلها، والأمر: الوحي. قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى السبع الأرضين.
وقال الحسن: بين كل سماء وبين الأرض.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه، وقيل: بينهنّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، وقيل: هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا هو مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله وللريح والسحاب، ونحوها. قرأ الجمهور: {يتنزل الأمر} من التنزل، ورفع الأمر على الفاعلية، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: {ينزل} من الإنزال، ونصب الأمر على المفعولية، والفاعل الله سبحانه، واللام في {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} متعلق ب {خلق}، أو ب {يتنزل}، أو بمقدّر، أي: فعل ذلك؛ لتعلموا كمال قدرته، وإحاطته بالأشياء، وهو معنى {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَئ عِلْمَا} فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان، وانتصاب علماً على المصدرية؛ لأن أحاط بمعنى علم، أو هو صفة لمصدر محذوف أي: أحاط إحاطة علماً، ويجوز أن يكون تمييزاً.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} يقول: لم ترحم {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} يقول: عظيماً منكراً.
وأخرج ابن مردويه عنه: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً} قال: محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات *وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} إلى آخر السورة، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} قال: سبع أرضين في كلّ أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد ملك. والثانية مسجن الريح، فلما أراد الله أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً يهلك عاداً، فقال: يا ربّ أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار: إذن تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه: {مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42] والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، فقالوا: يا رسول الله للنار كبريت؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده؛ إن فيها لأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت» إلى آخر الحديث. قال الذهبي متعقباً للحاكم: هو حديث منكر.
وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال: سيد السموات السماء التي فيها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها.

.سورة التحريم:

هي اثنا عشرة آية.
وهي مدنية.
قال القرطبي: في قول الجميع.
وتسمى سورة النبي.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة التحريم بالمدينة.
ولفظ ابن مردويه: سورة المحرم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء: {يا أيها النبي لم تحرم}.

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}
قوله: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} اختلف في سبب نزول الآية على أقوال: الأوّل قول أكثر المفسرين. قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: لا تخبري عائشة، ولك عليّ أن لا أقربها أبداً، فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا متصافيتين، فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية. فأنزل الله هذه السورة. قال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة، وذكر القصة. وقيل: السبب أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير. وقيل: السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله، وستعرف كيفية الجمع بينهما، وجملة {تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك} مستأنفة، أو مفسرة لقوله: {تُحَرّمُ}، أو في محل نصب على الحال من فاعل {تحرّم} أي: مبتغياً به مرضاة أزواجك، و{مرضاة} اسم مصدر، وهو الرضى، وأصله مرضوة، وهو مضاف إلى المفعول، أي: أن ترضي أزواجك، أو إلى الفاعل، أي: أن يرضين هنّ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: بليغ المغفرة والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحلّ الله لك، قيل: وكان لك ذنباً من الصغائر، فلذا عاتبه الله عليه، وقيل: إنها معاتبة على ترك الأولى. {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} أي: شرع لكم تحليل أيمانكم، وبيّن لكم ذلك، وتحلة أصلها: تحللة، فأدغمت. وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية، فكأن اليمين عقد، والكفارة حلّ؛ لأنها تحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه. قال مقاتل: المعنى قد بيّن الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة. أمر الله نبيه أن يُكَفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة. قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله.
قلت: وهذا هو الحقّ أن تحريم ما أحلّ الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه. فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره، ومعاتبته لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك، والبحث طويل، والمذاهب فيه كثيرة، والمقالات فيه طويلة، وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفي.
واختلف العلماء هل مجرّد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف، وليس في الآية ما يدلّ على أنه يمين؛ لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي سبب نزول الآية أنه حرّم أوّلاً، ثم حلف ثانياً، كما قدّمنا {والله مولاكم} أي: وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم {وَهُوَ العليم} بما فيه صلاحكم وفلاحكم {الحكيم} في أفعاله وأقواله.
{وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً} قال أكثر المفسرين: هي حفصة كما سبق، والحديث، هو تحريم مارية، أو العسل، أو تحريم التي وهبت نفسها له، والعامل في الظرف فعل مقدّر، أي: واذكر إذ أسرّ.
وقال الكلبي: أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي: أخبرت به غيرها {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي: أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أي: عرّف حفصة بعض ما أخبرت به. قرأ الجمهور: {عرّف} مشدّداً من التعريف، وقرأ عليّ، وطلحة بن مصرف، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وقتادة، والكسائي بالتخفيف. واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله: {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي: لم يعرّفها إياه، ولو كان مخففاً لقال في ضدّه: وأنكر بعضاً {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي: وأعرض عن تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس، وقيل: الذي أعرض عنه هو حديث مارية. وللمفسرين ها هنا خبط وخلط، وكلّ جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول، وسنوضح لك ذلك إن شاء الله {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي: أخبرها بما أفشت من الحديث {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي: من أخبرك به {قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير} أي: أخبرني الذي لا يخفى عليه خافية. {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الخطاب لعائشة وحفصة، أي: إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، ومعنى {صَغَتْ}: عدلت ومالت عن الحقّ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إفشاء الحديث. وقيل المعنى: إن تتوبا إلى الله، فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، وقال: {قلوبكما}، ولم يقل قلباكما؛ لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي: تتظاهرا، قرأ الجمهور {تظاهرا} بحذف إحدى التاءين تخفيفاً. وقرأ عكرمة: {تتظاهرا} على الأصل. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، ونافع، وعاصم في رواية عنهما: {تظهر} بتشديد الظاء والهاء بدون ألف، والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون، والمعنى: وإن تعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سرّه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} أي: فإن الله يتولى نصره وكذلك جبريل، ومن صلح من عباده المؤمنين، فلن يعدم ناصراً ينصره {وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك} أي: بعد نصر الله له، ونصر جبريل، وصالح المؤمنين {ظَهِير} أي: أعوان يظاهرونه، والملائكة مبتدأ، وخبره ظهير.
قال أبو عليّ الفارسي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله: {وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] قال الواحدي: وهذا من الواحد الذي يؤدّي عن الجمع كقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] وقد تقرّر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع. وقيل: كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في النفقة. {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ} أي: يعطيه بدلكنّ أزواجاً أفضل منكنّ، وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهنّ؛ ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيراً منهن تخويفاً لهنّ. وهو كقوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم. ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله: {مسلمات مؤمنات} أي: قائمات بفرائض الإسلام مصدّقات بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والقدر خيره وشرّه.
وقال سعيد بن جبير: مسلمات أي: مخلصات وقيل معناه: مسلمات لأمر الله ورسوله {قانتات} مطيعات لله، والقنوت: الطاعة، وقيل: مصليات {تائبات} يعني: من الذنوب {عابدات} لله متذللات له. قال الحسن، وسعيد بن جبير: كثيرات العبادة {سائحات} أي: صائمات.
وقال زيد بن أسلم: مهاجرات، وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلاّ الهجرة. قال ابن قتيبة، والفراء، وغيرهما: وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه، وقيل المعنى: ذاهبات في طاعة الله، من ساح الماء: إذا ذهب، وأصل السياحة: الجولان في الأرض، وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة {ثيبات وَأَبْكَاراً} وسط بينهما العاطف لتنافيهما، والثيبات: جمع ثيب، وهي المرأة التي قد تزوّجت، ثم ثابت عن زوجها فعادت، كما كانت غير ذات زوج. والأبكار: جمع بكر، وهي العذراء، سميت بذلك؛ لأنها على أوّل حالها التي خلقت عليه.
وقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش، ويشرب عندها لبناً، أو عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له، فقال: «لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود»، فنزلت: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} إلى قوله: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} لعائشة وحفصة {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً} لقوله: «بل شربت عسلاً».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، قال السيوطي بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحاً، فدخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: «أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه أبداً»، فأنزل الله: {عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} الآية.
وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال: سألت أمّ سلمة عن هذه الآية {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} قالت: كانت عندي عكة من عسل أبيض، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلعق منها، وكان يحبه. فقالت له عائشة: نحلها تجرس عرفطاً فحرّمها، فنزلت الآية.
وأخرج النسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً، فأنزل الله هذه الآية {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ} وأخرج البزار، والطبراني، قال السيوطي: بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدوّ الحديث في شأن مارية القبطية أمّ إبراهيم أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها، فوجدت حفصة، فقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي، قال: «ألا ترضين أن أحرمها، فلا أقربها أبداً؟» قالت: بلى فحرّمها وقال: «لا تذكري ذلك لأحد»، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه، فأنزل الله: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ}. الآيات كلها، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَفّر عن يمينه وأصاب مارية.
وأخرجه ابن سعد، وابن مردويه عنه بأطول من هذا، وأخرجه ابن مردويه أيضاً من وجه آخر عنه بأخصر منه، وأخرجه ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عنه مختصراً بلفظ قال: حرّم سريته، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي عنه من هذه الطرق، وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده، والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحفصة: «لا تحدّثي أحداً، وإن أمّ إبراهيم عليّ حرام»، فقالت: أتحرّم ما أحلّ الله لك؟ قال: «فوالله لا أقربها»، فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم}.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن أبي هريرة أن سبب نزول الآية تحريم مارية كما سلف، وسنده ضعيف. فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن بوقوع القصتين: قصة العسل، وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً، وفي كل واحد منهما أنه أسرّ الحديث إلى بعض أزواجه.
وأما ما قيل: من أن السبب هو تحريم المرأة التي وهبت نفسها، فليس في ذلك إلاّ ما روى ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} في المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قال السيوطي: وسنده ضعيف. ويردّ هذا أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل تلك الواهبة لنفسها، فكيف يصحّ أن يقال: إنه نزل في شأنها {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ}؟ فإن من ردّ ما وهب له لم يصحّ أن يقال: إنه حرّمه على نفسه، وأيضاً لا ينطبق على هذا السبب قوله: {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً} إلى آخر ما حكاه الله. وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهما عائشة وحفصة، ثم ذكر قصة الإيلاء، كما في الحديث الطويل، فليس في هذا نفي لكون السبب هو ما قدّمنا من قصة العسل، وقصة السرية؛ لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين، وذكر فيه أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، وأن ذلك سبب الاعتزال لا سبب نزول: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ}. ويؤيد هذا ما قدّمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ فأخبره بأنهما حفصة وعائشة، وبيّن له أن السبب قصة مارية. هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية، ودفع الاختلاف في شأنه، فاشدد عليه يديك؛ لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين.
وأخرج عبد الرزاق، والبخاري، وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر، وقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وأخرج ابن المنذر، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه عنه أنه جاءه رجل، فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حراماً، فقال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا {لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} قال: عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن عائشة قالت: لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح، فأنزل الله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} فأحلّ يمينه وأنفق عليه.
وأخرج ابن عديّ، وابن عساكر عن عائشة في قوله: {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً} قالت: أسرّ إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي.
وأخرج ابن عديّ، وأبو نعيم في الصحابة، والعشاري في فضائل الصدّيق، وابن مردويه، وابن عساكر من طرق عن عليّ، وابن عباس قال: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب: {وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً} قال لحفصة: أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي، فإياك أن تخبري أحداً بهذا.
قلت: وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله: {ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} بل فيه أن الحديث الذي أسرّه صلى الله عليه وسلم هو هذا، فعلى فرض أن له إسناداً يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة، وهي مقدّمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} قال: زاغت وأثمت.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: مالت.
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه في قوله: {وصالح الْمُؤْمِنِينَ} قال: أبو بكر وعمر.
وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود مثله.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في فضائل الصحابة من وجه آخر عنه مثله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر، وابن عباس مثله.
وأخرج الحاكم عن أبي أمامة مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم. قال السيوطي بسندٍ ضعيف عن عليّ مرفوعاً قال: هو عليّ بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{وصالح الْمُؤْمِنِينَ} عليّ بن أبي طالب».
وأخرج ابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {وصالح الْمُؤْمِنِينَ} قال: هو عليّ بن أبي طالب.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن بريدة في قوله: {ثيبات وَأَبْكَاراً} قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه أن يزوّجه بالثيب آسية امرأة فرعون، وبالبكر مريم بنت عمران.